فصل: مطلب في التهكم والكتاب والنهي عن مجالسة الغواة وأفعال المنافقين وأقوال اليهود الباطلة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما أشار تعالى في الآية الثالثة المارة إلى الاكتفاء بالواحدة عند عدم تيقن العدل قال هنا جل قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ} في الحب والنظر وميل القلب {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} كل الحرص، لأن ذلك ليس بوسعكم، وإذا كان الأمر كذلك {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} إلى التي تحبونها وتجوروا كل الجور على الأخرى في القسم والنفقة والسكنى والنظر فهذا مما هو منهي عنه، لأنكم بعملكم هذا تتركونها {فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ} لا هي ذات زوج يعاملها معاملة الأزواج ولا هي أيم تبتغي الزواج فتتزوج {وَإِنْ تُصْلِحُوا} أنفسكم فتعطوها نصيبها من القسم والنفقة والسكنى كضرتها {وَتَتَّقُوا} اللّه فيها فتمنعوا أنفسكم من الجور وتنفقوا فيما بينكم {فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا} لما يقع منكم من الميل القلبي {رَحِيمًا (129)} بكم لا يجازيكم على ما لا قدرة لكم عليه مما هو خارج عن وسعكم، تؤذن هذه الآية بلزوم الاقتصار على الواحدة إذا لم يأمن من نفسه العدل، وإذا ابتلي بالجمع ولم يتمكن بأي صورة كانت من بقائها معه، فليتبع قوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقا} على إحسان اتباعا لقوله تعالى فهو خير، لأن اللّه تعالى قد {يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} وجوده وفضله فيعوض الزوجة زوجا خيرا لها من زوجها ويعوض الزوج زوجة خيرا له من مطلقته أو يقضي بينه وبين زوجته ما هو خير من بقاء ضرتها معها {وَكانَ اللَّهُ واسِعًا} خيره عميا برّه عليهما {حَكِيمًا (130)} فيما يقيضه بين عباده هذا.
وقد وعد اللّه تعالى الغنى على الفراق في هذه الآية، كما وعد الغني على الزواج في الآية 32 من سورة النور الآتية.
وهذا من لطفه تعالى وجبره لخواطر عباده وله الحمد.
أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم فيعدل فيقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب لأنه تحت قبضة اللّه تعالى لا طاقة للعبد في تقلبه.
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط.
وعن أبي داود من كانت له امرأتان فمال إلى أحدهما جاء يوم القيامة وشقه مائل وليعلم أن القسم شرط في البينونة والنفقة والكسوة والسكنى، لا في الجماع ولا في محبة القلب والميل الودي وله إذا تزوج جديدة بكرا على قديمة أن يخصها بسبعة أيام، وإن ثيبا بثلاثة مع لياليها، وله إذا سافر سفرا طويلا أو قصيرا أن يأخذ إحداهن معه بالقرعة ولا يقضي للأخرى هذه المدة، وفي غيرها يجب عليه القضاء، وإذا انتقل نقلة دائمة وجب عليه استصحاب نسائه كافة.
قالت عائشة رضي اللّه عنها وعن أبيها كان صلّى اللّه عليه وسلم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه- أخرجه البخاري بزيادة- وليعلم أن اللّه تعالى استثنى رسوله من القسم بين النساء كما مر في الآية 51 من سورة الأحزاب مع بيان السبب في ذلك فراجعها.
{وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} لما ذكر اللّه تعالى إغناء كل من الزوجين عند الفراق أشار إلى ما يوجب الرغبة إليه، لأن من ملك هذه الهياكل العظيمة هو جدير بالجود على من يسأله من فضله مما فيهما.
قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أيها الناس من لدن آدم عليه السلام إلى زمنكم {وَإِيَّاكُمْ} نوصّي يا أهل القرآن {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} بالنساء وغيرهن، لأن الأمر بالتقوى شريعة قديمة باقية إلى الأبد، وكررت الوصية فيها لمنى غير الأول أي اقبلوا وصية {وَإِنْ تَكْفُرُوا} بما جاءكم عن ربكم فهو غني عنكم ولا يعبا بكم ولا ينظر إليكم، وإن تؤمنوا وتعلموا بأنه هو الغني فاطلبوا منه ما تشاءون فهو يعطيكم وإن تجحدوا هذه الوصية {فَإِنَّ لِلَّهِ} الذي هو غني عن خلقه {ما فِي السَّماواتِ} من ملائكة وكواكب {وَما فِي الْأَرْضِ} من مخلوقات يتقون اللّه ويطيعونه أكثر منكم {وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا} عن جميع خلقه علويه وسفليه، غير محتاج لطاعتهم لأنهم تحت قهره {حَمِيدًا (131)} لنفسه وإن لم يحمده أحد {وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)} على خلقه شهيدا على أعمالهم، وكررت أيضا لاختصاصها بمعنى آخر أي فتوكلوا عليه لا على غيره.
وفي هاتين الآيتين من التهديد والوعيد ما لا يخفى، وقد أكدهما بقوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} كلكم إذا لم ترجعوا عن غيكم {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} أطوع منكم إليه بان ينشأهم كما أنشأكم من لا شيء {وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ} إذهابكم وخلق غيركم {قَدِيرًا (133)} لا يعجزه شيء من ذلك، وفي هذه الآية تهديد عظيم، ألا فلينتبه وليحذر من لم يتق اللّه ويخش بطشه وانتقامه، فإنه بالغ القدرة يفعل ما يشاء.
قال تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا} جزاء عمله فيها منكم أيها الناس ويصرف نظره عن نعيم الآخرة الباقي إلى نعمها الفانية، {فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} فاطلبوها معا لا تتقصروا على ثواب الدنيا فقط وهو قادر على إعطائكم ثوابهما معا إذا طلبتموهما {وَكانَ اللَّهُ سَمِيعًا} لأقوالكم {بَصِيرًا (134)} بنياتكم لا يخفى عليه شيء من أموركم.
كان المنافقون إذا ذهبوا للجهاد يقصدون الغنيمة فقط لأنهم لا يصدقون بالآخرة كالمشركين الذين لا يعترفون بالبعث، فأنزل اللّه فيهم هذه الآية.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} مجتهدين في إقامة العدل بين الناس على اختلاف طبقاتهم {شُهَداءَ لِلَّهِ} مخلصين لوجهه ابتغاء مرضاته {وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} تلك الشهادة فكما يجب عليكم أداؤها بالحق للغير يجب أداؤها على أنفسكم بأن تقروا بالحق فيما لكم وعليكم {أَوِ} كانت الشهادة على {الْوالِدَيْنِ} لكم {وَالْأَقْرَبِينَ} منكم.
واحذروا أن تحابوهم بسبب القرابة، فاللّه أحق أن تهابوه بأدائها، وإياكم أن تفرقوا بين المشهود عليه {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} قويا أو ضعيفا فما عليكم إلا أن تشهدوا بالواقع بقطع النظر عن حالهما وشأنهما، خطيرا كان أو حقيرا، عدوا أو صديقا {فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما} منكم واحذروا أن تكتموا شيئا وتقولوا زورا اتباعا لهواكم أو رضاء للشهود له أو عدم مبالاة بالمشهود عليه، راجع الآية 107 المارة، ولهذا يقول اللّه تعالى لكم: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا} عن الحق في أداء الشهادة {وَإِنْ تَلْوُوا} بألسنتكم فتحرفوها إلى غير الحق فلا تؤدوها على وجهها اتباعا لهوى أنفسكم {أَوْ تُعْرِضُوا} عن إقامة الشهادة فتكتموها خوفا من أعدائكم أو مراعاة لأصدقائكم أو تهتموا للغني ولا تبالوا بالفقير {فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)} فيعاقبكم على ذلك.
قالوا كان اختصم إلى حضرة الرسول فقير وغني، فأصغى إلى الفقير لأنه عادة لا يظلم الغني، فأنزل اللّه هذه الآية بعلمه فيها أن لا فرق بين الغني والفقير والكبير والصغير بإقامة العدل، وإن الظلم قد يصدر من الفقير والضعيف كما يكون من الغني والقوي، وقد يكون الفقير هو المعتدي ويتذرع بفقره لدى الناس ويتظلم لدى الحكام ليستعين بهم على ظلمه.
قال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ** ذا عقة فلعلة لا يظلم

وما قاله الآخر:
ظلم القوي للضعيف جاري ** في الأرض والهواء والبحار

فهو على طريق التغليب على أن فقر الأخلاق أشد من فقر المال وأتعس.
قال:
وما فقر الدراهم حال ذل ** ولكن فقر أخلاق الرجال

فلا تحزن على يسر تقضى ** وقم واندب على كرم الخلال

فإن العسر يتلوه يسار ** وليس لخسة الأخلاق تال

قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} هذا خطاب عام لكافة المؤمنين من المشركين وأهل الكتاب والذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم {آمَنُوا} إيمانا عاما شاملا وأديموا إيمانكم {بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} لأن من لم يؤمن بالرسول لا يقبل إيمانه باللّه، وبالعكس أيضا، واستمروا على الإيمان، وأخلصوا فيه قلبا ولسانا {وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ} آمنوا به أيضا {وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} كتابكم آمنوا به وآل فيه للجنس أي كل كتاب من الكتب المنزلة قبلا من اللّه تعالى على الرسل السالفة من لدن آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام، لأن من لا يؤمن بأحدها لا يقبل إيمانه بالآخر، ومن كفر بأحدها فقد كفر بها كلها، فاثبتوا على هذا الإيمان الكامل الشامل {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} أو بأحد منهم ومنها {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} من يكفر به ويجحده {فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا (136)} واستحق عذابا شديدا كما أسلم عبد اللّه بن سلام كما مر في الآية 47 جاء أسد وأسيد ابنا كعب وثعلبة بن قيس وسلام ابن أخت عبد اللّه بن سلام ومسلمة بن أخيه ويامين بن يامين وقالوا يا رسول اللّه إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما عدا ذلك من الكتب والرسل، فقال صلّى اللّه عليه وسلم بل آمنوا باللّه ورسوله محمد والقرآن وبكل كتاب قبله وكل رسول أرسل، فأنزل اللّه هذه الآية.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بموسى {ثُمَّ كَفَرُوا} بعده {ثُمَّ آمَنُوا} بعزير وداود {ثُمَّ كَفَرُوا} بيحيى وعيسى {ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا} بمحمد صلوات اللّه عليهم وسلامه وماتوا على كفرهم {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)} ينجون به من العذاب، راجع نظيرة هذه الآية الآتية 90 من آل عمران المارة وقد نزلت هذه الآية تبكيتا لليهود الموجودين زمن الرسول باعتبار عد ما صدر من أسلافهم كأنه صادر عنهم، وفي المنافقين الذين يؤمنون ويرتدّون عن الإيمان المرة بعد الأخرى.

.مطلب في التهكم والكتاب والنهي عن مجالسة الغواة وأفعال المنافقين وأقوال اليهود الباطلة:

قال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ} يا سيد الرسل {بِأَنَّ لَهُمْ عَذابًا أَلِيمًا (138)} وهذا على طريق التهكم بهم مأخوذ من البشارة وهي كلمة تتغير عند سماعها بشرة الوجه سارة كانت أو ضارة، إلا أن استعمالها الشائع بالخير فقط، ولا يوجد في القرآن آية مبدوءة بمثل هذه الكلمة غير هذه.
ثم وصفهم اللّه بقوله: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ويركنون إليهم، فسلهم يا سيد الرسل {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} بذلك الاتخاذ كلا لا عزة لهم به بل ذلة لهم ومهانة، وإذا كانوا يريدون العزة الحقيقية {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)} وهو يعطيها أولياءه ويخص أصفياءه بها فيتخذون اللّه وليا وهو يعزهم {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ} في هذا القرآن في الآية 68 فما بعدها من سورة الأنعام ج2، ولهذا صحت الإشارة إليها لانها متقدمة في النزول على هذه كما ألمعنا إليه هناك، وإلا لما صحت الإشارة إليها، تدبر.
وهذا من جملة الأسباب الداعية لترتيب هذا التفسير على حسب النزول، وقد يطلق على كل سورة من القرآن لفظ كتاب كما تقدم أول سورة هود، وكرر لفظ الكتاب كثيرا في القرآن العظيم وخاصة أوائل السور المبدوءة بالحروف المقطعة وهو لفظ محبوب لكل كتاب، وفيه قال:
نعم الأنيس إذا خلوت كتاب ** تلهو به إن فاتك الأحباب

لا مفشيا سرا إذا استودعته ** وتنال فيه حكمة وصواب

فالسعيد الذي يتخذه رفيقا ليله ونهاره حضره وسفره ويغتني عن أصحاب السوء ومجالس اللهو المؤديين لسوء العاقبة وقبح السمعة، إذ قل أن تجد صديقا صادقا ومجلسا سارا.
ثم بين هذا المنزل المشار إليه في قوله عزّ قوله: {أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} إذا قعدتم معهم حينما يخوضون بآيات اللّه، لأنكم تعدون راضين بهم وبما يخوضون فيه، وإلا لما جلستم معهم إذ الراضي بالشيء كفاعله فتصيروا منافقين اخوان الكافرين ويكون لكم ما لهم عند اللّه {إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)} لاجتماعهم على الكفر أنزل اللّه هذه الآية في النهي عن مجالسة المنافقين في المدينة، كما أنزل آيات الأنعام المذكورة في النهي عن مجالسة الكافرين في مكة، والغاية واحدة، ولذلك جاءت مؤكدة لها ومعطوفة عليها في المعنى.